السبت، 10 أغسطس 2013

قرامطة الأحساء عندما يستنطق المكان الزمان


حسين الملاك





قرامطة الأحساء
عندما يستنطق المكان الزمان




مدخل:
عرف إقليم البحرين بعمقه الحضاري وبازدهاره الحضري حيث كان مركزا تجارياً وإقليماً زراعياً وصناعيا.
وما أن خرج الإسلام وسمع أهل الإقليم به حتى أرسلوا رسولهم يسأل عنه ثم توافدت الوفود على الرسول الأكرم ليعلنوا إسلامهم  وينشروا الإسلام عبر الفتوحات الإسلامية.
إلا أن الإقليم ابتدأ في الأفول بعد الفتح الإسلامي بسبب تحول التجارة من الجنوب إلى الشمال خصوصا بعد تحول الفتوح الإسلامية إلى البصرة وإنشاء مدينة الكوفة في عهد الخليفة عمر بن الخطاب.

كما أن ضرائب الجزية والشروط المفروضة على الزراعة ساهمت في تدهورها.
وتحول الإقليم في العصر الأموي والعباسي إلى بؤرة من بور المعارضة والتمرد ومنطقة من مناطق النفي.
 وقد أدى الاختلاف في الفهم الديني إلى خلاف على أرض الواقع خصوصا إذا عبَر هذا الفهم عن موقفه السياسي من السلطة أو الجماهير وهذا ما نلمسه في إقليم البحرين منذ ما عرف بحروب الردة مرورا بالخوارج  ثم صاحب الزنج وأخيرا وليس أخرا حركة القرامطة.

كما ساهمت الفتوحات الإسلامية المبكرة في دخول الكثير من الشعوب إلى حضيرة الدولة الإسلامية حاملين معهم الشيء الكثير من أرثهم الحضاري والكثير الكثير من معتقداتهم وعاداتهم وتقاليدهم وقد ساهم هذا التغيير الديموغرافي في تغيير المنظومة الفكرية للدولة الإسلامية سلبا وإيجابا.
وفي العصر العباسي الثاني انتقلت الكثير من هذه القوميات إلى مركز الخلافة محاولة توطيد علاقتها بالحاكم وقد تمكنت بعض الفئات من ذلك وقامت بتغيير بعض مجريات الأمور وعزلت بعض الفئات وأصبحت المسافة بين الحاكم والناس شاسعة سمحت بقيام حركات عقائدية عسكرية تعبر عن رأي العامة ويرفع معظمها شعارا روحيا بديلا للسلطة الروحية المطعون فيها لدى الخليفة العباسي بالإضافة إلى شعار سياسي يميزها عن بقية الفرق وكانت تلك الحركات في صدام مباشر مع الخليفة من خلال أجهزته العازلة من ترك وموال وجنود ومرتزقة.
ففي العهد العباسي أصبح إقليم البحرين إقليم مهمش من قبل السلطة فأضطرب الأمن وتدهورت الحياة فيه وخرج في هذه الفترة الفكر القرمطي وسرعان ما أنتشر في عدد من الأقاليم المهمشة كان إقليم البحرين واحداً منها.
وقد أختلف المؤرخون في بداية القرامطة فرجح اغلبهم ابتدائهم في الكوفة وأن اختلفوا في السنة حيث يرى الطبري أنها سنة 278هـ بينما أبن خلدون يؤرخها سنة 258هـ وأبن العديم سنة 264هـ  في أواخر عهد الخليفة العباسي المعتمد على الله أبو العباس أحمد بن جعفر المتوكل بن المعتصم.
وأن كان بعض الباحثين يشكك بذلك ويرجح أن تكون في المناطق النائية عن الخلافة خصوصا اليمن ذات الطبيعة الجبلية والقبلية الملائمة للعمل ضد السلطة المركزية.[1]
ويؤرخ ثابت بن سنان الصابئ لبداية القرامطة في البحرين في سنة 281هـ حينما قصد يحيى بن المهدي القطيف ونزل عند رجل يعرف بعلي بن المعلَى بن حمدان مولى الزياديين وأظهر له أنه رسول المهدي يدعو شيعته إلى أمره وقد قرب ظهوره فأخبر علي بن المعلى الشيعة من أهل القطيف وقرا عليهم الكتب التي مع يحيى بن المهدي فأجابوه وكان ممن أجابه أبو سعيد الجنابي[2].
وفي سنة  286هـ يعود أبو سعيد الجنابي للظهور في ساحة البحرين فيظهر أمره
وفي سنة 287هـ أرسل الخليفة العباسي المعتضد جيشا بقيادة العباس الغنوي الذي وله على البحرين واليمامة وطلب منه التخلص من أبو سعيد والخطر الذي يشكله فلتقى الجيشان في آفان وانتصر أبو سعيد على العباس وقتل جيشه وفر من فر ولم يبقي إلا على العباس حيث حمله رسالة إلى المعتضد حيث ذكر فيها أنه لم يأخذ شيء من يد المعتضد كما بين له صعوبة الوصول إليه والتخلص منه وقد بلغ أبو سعيد غايته من الرسالة حيث لم ترسل له حملة أخرى.
ثم أن أبو سعيد توجه إلى هجر وهي " بأنها "مدينة البحرين ومنزل سلطانها، وبها التجار والوجوه فنازلها شهوراً يقاتل أهلها، ثم وكل بها رجلا.
وارتفع فنزل الأحساء وبينها وبين هجر ميلان فابتنى بها دارا، وجعلها منزلا، وتقدم في زراعة الأرض وعمارتها، وكان يركب إلى هجر، ويحارب أهلها، ويعقب قومه على حصارها.
- حتى تمكن من فتحها - ثم سار فنزل على هجر وقد انقطع الماء عنهم ففر بعضهم فركب البحر، ودخل بعضهم في دعوته، وخرجوا إليه فنقلهم إلى الأحساء، وبقيت طائفة لم يفروا لعجزهم، ولم يدخلوا في دعوته فقتلهم، وأخذ ما في المدينة، وأخربها فبقيت خراباً، وصارت مدينة البحرين هي الأحساء."[3]
ثم أن أبو سعيد أخذ يوطد أسس الدولة فأقبل " على جمع الخيل، وإعداد السلاح، ونسج الدروع والمغافر، واتخاذ الإبل، وإصلاح الرجال، وضرب السيوف والأسنة، واتخاذ الروايا والمزاد والقرب، وتعليم الصبيان الفروسية، وطرد الأعراب من قريته، وسد الوجوه التي يتعرف منها أمر بلده وأحواله بالرجال، وإصلاح أراضي المزارع وأصول النخل، وإصلاح مثل هذه الأمور وتفقدها، ونصب الأمناء على ذلك، وأقام العرفاء على الرجال، واحتاط على ذلك كله، حتى بلغ من تفقده أن الشاة إذا ذبحت يتسلم العرفاء اللحم ليفرقوه على من ترسم لهم، ويدفع الرأس والأكارع والبطن إلى العبيد والإماء، ويجز الصوف والشعر من الغنم ويفرقه على من يغزله، ثم يدفعه إلى من ينسجه عبيا وأكسية وغرائر وجوالقات، ويفتل منه حبال، ويسلم الجلد إلى الدباغ، ثم إلى خرازى القرب والروايا، والمزاد؛ وما كان من الجلود يصلح نعالا وخفا فأعمل منه، ثم يجمع ذلك كله إلى خزائن.
فكان ذلك دأبه لا يغفله، ويوجه كل قليل خيلا إلى ناحية البصرة، فتأخذ من وجدت، وتصير بهم إليه ويستعبدهم، فزادت بلاده، وعظمت هيبته في صدور الناس."[4]
وفي سنة 301هـ قتل أبو سعيد الجنابي قتله خادم له صقلبي في الحمام يروي ناصر خسرو أن أبي سعيد " قد أوصى أبناه قائلاً :"يرعى الملك ويحافظ عليه ستة من أبنائي يحكمون الناس بالعدل والقسطاط ولا يختلفون فيما بينهم حتى أعود ".[5]
ويروي المقريزي أن " أبو سعيد قد جمع رؤساء دولته، وأوصى إن حدث به موت يكون القيم بأمرهم سعيد ابنه إلى أن يكبر أبو طاهر، وكان أبو طاهر أصغر سنا من سعيد، فإذا كبر أبو طاهر كان المدبر؛ فلما قتل جرى الأمر على ذلك.
وكان قد قال لهم سيكون الفتوح له، فجلس سعيد يدبر الأمر بعد قتل أبيه، وأمر فشد الخادم بحبال، وقرض لحمه بالمقاريض حتى مات؛ فلما كان في سنة خمس وثلاثمائة سلم سعيد إلى أخيه أبي طاهر سليمان الأمر، فعظموا أمره."[6]
وفي عهد أبو الطاهر الجنابي الذي أراد أن يوسع دولته وكان قائدا محنكا وشجاعا حتى أنه هدد الخلافة العباسية وكاد يغزو بغداد ويملكها  لولا قطع القنطرة التي على النهر[7]
ثم جاءت حادثة مكة حيث ذهب ابو طاهر إلى مكة سنة 317 هـ وكثر الكلام على هذه الحادثة وأسبابها حيث قيل إن أبو الطاهر في محاولة منه لإذلال الخلافة العباسية وإحراجها سياسيا ودينيا وكذلك لأسباب اقتصادية غزى مكة سنة317هـ فنهبها وقتل الحجاج واخذ الحجر الأسود وبقي مهملا في الأحساء لمدة 22 سنة[8] وسنتطرق لهذا الموضوع تحديا في بحث تفصيلي ان شاء الله .
استمرت حملات القرامطة تهدد قوافل الحجاج والمناطق المجاورة حتى اهتدى أبو الطاهر إلى فرض الإتاوات والمكوس بدل الغزو والهجمات والحروب وقد تحقق لأبي طاهر ما أراد من الدولة العباسية التي كانت تدفع 250000 أو 120000ديناربالأضافة إلى اتوات الدول الأخرى المجاورة وكذلك ما يدفعه الحاج والقوافل من رسم الخفارة[9].
ثم جاءت فتنه الأصبهاني التي أفسدت حال القرامطة[10]وبعدها توفي أبو الطاهر بالجدري سنة 332هـ وحدث نزاع بين العقدانية على من يقود القرامطة حيث اختلفوا بين أحمد أخو أبو الطاهر وأبنه سابور أدى هذا الخلاف إلى اختلاف في البيت الحاكم[11]وضعف في الدولة القرمطية التي أعاد لها مجدها القائد الشجاع والشاعر الحسن بن أحمد القرمطي المعروف بالأعصم.
وقد تزعم القرامطة بعد وفاة والده سنة 359هـ وفي عهده عادت القوة المركزية إلى سيرتها الأولى حيث تمكن من حسم الصراع في البيت الحاكم وشهدت البلاد استقرارا داخليا ساعدها على الغزو لمعالجة الوضع الاقتصادي المتدهور.
ولما حكم الفاطميون دمشق قطعوا ما يحمله أبن طغج من الأموال سنوياً وتقدر بثلاثمائة ألف دينار.
وحاول الأعصم استمالة جميع الأطراف التي كانت على عداء مع الفاطميين مثل العباسيين والحمدانيين والعقيليين وبعض قبائل العرب وخطب في المساجد للخليفة المطيع لله الفضل بن المقتدر وطلب من السلطان البويهي عز الدولة أن يمده بالمال والرجال ووعده بطرد الفاطميين من الشام ومصر وانه سيحكمها باسم آل بويه ووافق عز الدولة على ذلك رغم رفض الخليفة العباسي وسانده الحمدانيون فسار الأعصم بجيشه إلى الشام واحتل دمشق ثم الرملة ثم سار إلى القاهرة فاحتل القلزم سنة 361هـ ونهبها ثم سار إلى عين شمس واستولى عليها وسار إلى القاهرة حيث كان ينتظره الجيش الفاطمي الذي قاتل ببسالة مما اضطر الحسن الأعصم للعودة إلى الأحساء ليلم جيشه.
ثم دعاه افتكين طالبا منه النجدة والحضور إلى دمشق وتواجه الأعصم وافتكين مع الفاطميين وتفكك الجيش وانهزم الأعصم إلى طبرية ومات فيها في يوم الأربعاء لسبع بقين من رجب عام 366هـ واستلم قيادة الجيش القرمطي جعفر بن سعيد الجنابي الذي اتفق مع العزيز بالله على أن يدفع له مبلغا سنوياً قدره عشرون ألف دينار طيلة حياته ولا يعود إلى الشام وظل الأمر كذلك حتى وفاة العزيز بالله [12], ثم سار إلى الأحساء وقد حمل معه جثمان الحسن الأعصم ودفنه هناك[13]
أبتدئ مجد القرامطة في الأفول مع موت الأعصم شيئاً فشيئاً خصوصاً مع انقسام البيت الحاكم واختلافه وخروج الثورات في كل من جزيرة أوال على يد أبي البهلول وفي القطيف على يد يحيى ابن العياش وفي الأحساء على يد عبد الله بن علي العيوني في البحرين سنة 469هـ[14]






النظام القرمطي في الأحساء

قبل الدخول في محاولة معرفة النظام القرمطي لابد من المرور على ما عاناه الباحثين من صعوبات تجاه هذا الموضوع حيث التاريخ المشوه والملفق حيث" يجد الباحث في تاريخ القرامطة نفسه أمام تركيبة عجيبة من التلفيق والتحامل والخلط في كل ما يتعلق بهذه الحركة بحيث يتعذر في بعض الأوقات حل الخيوط اللازمة لاستخلاص بعض النتائج فيضطر للجوء لأساليب علماء الآثار في ترميم الناقص من المكتشفات حسب تصور العالم لما يجب أن يكون عليه الأثر وهكذا لابد للمنطق بل الخيال أحيانا أن يتدخل لملء فراغات كبيرة تسد ثغرة الروايات المتناقضة أو فترات التعتيم."[15]
فالحركة"القرمطية كحركة ثورية مؤثرة ذات أهداف ومبادئ اجتماعية واقتصادية وسياسية تعرضت للسفه التاريخي من قبل جمهرة الرواة والمؤرخين المتعصبين الذين يدونون ويكتبون بأمزجتهم وغرائزهم فقط وأحيانا يكتبون وسيوف الإقطاع والحكام مسلطة فوق رؤوسهم وأعناقهم بالإضافة إلى أعمار جيوبهم بالأصفر الرنان وتعرضت أيضا للتهشيم والهجمات الشرسة والإشاعات والاتهامات المغرضة المقصودة من قبل كتاب استأجروا لتشويه هذه الحركة الثورية وتصويرها بغير صورتها الحقيقية."[16]
وقد " لعب القرامطة دورا سجل على صفحات التاريخ الإسلامي بأحرف سوداء كالحة ولا يزال العلماء فيهم مختلفون بين أخذ ورد ومد وجزر حتى عصرنا الحالي لان العوامل التي أحاطت بتاريخ هذه الجماعة جعلت دراسة تاريخهم من الصعوبة بمكان لفقدان مؤلفاتهم ولكثرة ما دسه الخصوم حولهم من إشاعات وأباطيل وما لفقوا من روايات وأقاويل خاصة ما يتعلق منها بعقائدهم الدينية وحياتهم الاجتماعية وما نسب إليهم من جرائم وآثام."[17]




1- الحياة الدينية:

أول تهمة تلصق بالقرامطة أنهم ملاحدة كفار[18] وهذا ما لم يقبله الكثيرون منهم القاضي أبي جعفر أحمد بن إسحاق بن البهلول الذي لم يحكم بتكفيرهم ورد مدافعا عن علي بن عيسى "إذا لم يصح عنده كفرهم وكاتبوه بالتسمية لله ثم الصلاة على الرسول محمد وانتسبوا إلى أنهم مسلمون
وإنما ينازعون في الإمامة فقط لم يطلق عليهم الكفر "[19]
كذلك فتوى الإمام أبو حنيفة أحد أئمة المذاهب الأربعة بمساندتهم عسكرياً التي تدل أن تفسيرهم للدين على غلوه لا يبعدهم من حضيرة الإسلام[20].
أما من أدخلهم في الإسلام فانقسموا في تقسيمهم فمنهم من رأوا أنهم على مذهب الحنفية الكيسانية ومنهم من رأوا ذلك ثم أنهم عدلوا عن الحنفية إلى الإسماعيلية[21] ومنهم من يرى أنهم إسماعليون من الأصل[22] وأنهم وقفوا عند محمد بن إسماعيل باعتباره المهدي الغائب ومنهم من يرى أنهم امتدوا إلى الفاطميين وكانوا يرون فيهم الإمامة[23].
والأرجح أنهم إسماعليون وقفوا عند محمد بن إسماعيل أما هم فكما يشير ناصر خسرو عندما زارهم " وحين يسألون عن مذهبهم يقولون : إنا أبو سعيديون "[24]
وكان لبعض تصرفات القرامطة أثر سلبي من الناحية الدينية كغزو مكة وانتزاع الحجر الأسود , وكذلك تساهلهم الديني خصوصا في عدم أظهار الشعائر الدينية ساهم في توجيه أسهم النقد إليهم وأن كان لكل ذلك أسبابه العقدية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية التي لا تخفى على المحلل المنصف .





2- الحياة السياسية:

نظام الحكم في الدولة القرمطية أقرب ما يكون إلى الجمهورية الملكية يكون فيه الحاكم واحد بين أسوياء وله مجلس استشاري يعرف بالعقدانية أي أهل الحل والعقد[25] ويشير ناصر خسرو إلى ذلك "ولهؤلاء الحكام الآن قصر منيف , هو دار ملكهم و به تخت يجلسون هم الستة عليه ويصدرون أوامرهم بالاتفاق , وكذلك يحكمون . ولهم ستة وزراء, فيجلس الملوك على تخت والوزراء على تخت أخر, ويتداولون في كل أمر"[26]
نجح أبو سعيد الجنابي في تأسيس دولة قوية ذات جيش مهاب كما نجح في استصلاح أمور البلاد وتوفير العيش الكريم لأبناء دولته وحكم بالعدل والقسطاط وكذلك أوصى أبنائه  ويشير ناصر خسرو إلى ذلك "ويجيب السلاطين من يحدثهم من الرعية برقة وتواضع ".
وقد حكموا الجزيرة العربية ووصل نفوذهم إلى الشام كما أنهم هددوا الخلافة العباسية في عهد أبي الطاهر حيث وصلوا إلى بغداد ولولا مكيدة قطع قنطرة الجسر لدخلوها كذلك هددوا الخلافة الفاطمية ووصلوا إلى عين شمس ولولا المكيدة والرشوة لدخلوها.
ومع كل هذا الرقي السياسي إلا إن الانقسام في البيت الحاكم واختلاف مجلس العقدانية عليه وتحويل ذلك إلى خلاف حقيقي أضعف الدولة وأصبح كل طرف في النزاع يبحث عن حلفاء يساندونه ليتخلص من الجناح الأخر كما ساهمت فتنة الأصبهاني وهروب الكثير من رجالات الدولة خوفاً من القتل في أضعافها.


3- الحياة الاجتماعية:

ينقسم القرامطة بشكل عام إلى قسمين القرامطة أصحاب الفكر والعقيدة وهم من يسكنون المدن وخصوصاً الأحساء  وحلفائهم من البدو والقبائل وهم يتقاطعون معهم في المصالح الاقتصادية حيث الغزو والغنائم.
والمجتمع القرمطي هو مجتمع متعدد ومتسامح في تعدديته تختلف فيه الأطياف الاجتماعية المختلفة الشعوب والأديان والأعراق وقد كفل لهم النظام الحرية الاجتماعية.
وعاش القرامطة في نظام الألفة رغم اختلاف وظائفهم فمنهم الساسة والتجار والصناع والحرفين والمزارعين والعبيد وعاش الجميع عيشاً كريما ولم يسجل لنا التاريخ أي ثورات اجتماعية خلال حكمهم الطويل إلا تلك التي كانت في نهاية حكمهم.
وقد شاركت المرأة القرمطية في بنية المجتمع  فشاركت في الدعوة والتعليم والسياسة والاجتماع والاقتصاد.
هناك بعض النقاط اعتبرت نقاط ضعف ونقد في المجتمع القرمطي وهي وضع المرأة حيث اتهمت بالمشاعية الجنسية وهي فرية  أثبت المحققون على اختلاف مشاربهم بطلانها وكان سببها الدور الذي تلعبه المرأة في ذلك المجتمع [27].
والنقطة الثانية وجوع العبيد وهي ثغرة حقيقية ولكن ينبغي النظر إليها على أنها نتاج ذلك الزمن فلم يتطور الفكر البشري إلا ذلك الحد.
والنقطة الثالثة كانت إسرافهم في القتل والأسر ويبدو أن ذلك كان نتاج الطبيعة الثورية والحياة البدوية وما يصحبها من جفاء.


4- الحياة الاقتصادية:

يتضح من نص المقريزي أن أبو سعيد الجنابي قام بإلغاء الملكيات الخاصة وأصبح الملك جماعيا تديره الدولة التي خصصت العرفاء لذلك وأصبح كل يعمل على مقدرته ويأخذ قدر حاجته.
فالكل في هذه الدولة الفتية يعمل الرجال والنساء والأطفال ويسلم الكسب إلى الدولة التي توفر لهم كل وسائل العيش.
ثم أن الدولة بعد أن قويت أعفت الرعية واعتمدت على الأموال الخارجية التي تأخذها من الدول المجاورة ومن الإقطاعات التي يقطعونها كما يشير أبن حوقل في صورة الأرض إلى ذلك فيقول أن ديارهم بها "أموال وعشور ووجوه مرافق وقوانين ومراصد وضروب مرسومة من الكلف إلى ما يصل إليهم "[28] ويجمعونه ثم يقتسمون ما يصلهم من مال السنة في يوم معلوم فيعزل منه الخمس بسهم صاحب الزمان وثلاثة أخماس على ولد أبي سعيد على قوانين وضعوها بينهم والخمس الباقي للسنابرة
وهو مبلغ كبير جدا حيث يشير ابن حوقل أنه دون الخمس الخارج لصاحب الزمان ألف ألف دينار وربما زادت المائة والمائتي ألف دينار.
ويشير ناصر خسروا إلى أنهم يساعدون الرعية ولا يأخذون منهم العشور وإذا افتقر إنسان أو استدان يتعهدونه حتى يتيسر عمله وإذا كان لأحدهم دين لا يطالب بأكثر من رأس ماله ويعطى كل غريب له صنعة ما يكفيه من المال لصنعته ويرده إلى الحكام متى شاء وإذا خرب بيت أو طاحون لأحد الملاك وليس له قدرة إصلاحه أصلحوه ولا يطلبون من المالك شيئا كما أن في الحسا مطاحن مملوكة للسلطان تطحن الحبوب للرعية مجاناً ويدفع السلطان نفقات إصلاحها وأجور الطحانين.
والبيع والشراء بعملة خاصة من الرصاص توضع في زنابيل ولا تسري للخارج وينسجون فوطا جميلة يصدرونها للبصرة وعيرها [29]
وفي العهد القرمطي ازدهرت الزراعة[30]خصوصا مع الخطط الزراعية من توفير الأيادي العاملة[31] وحفر العيون وشق قنوات الري في نظام محكم للاستفادة من كل الماء الموجود[32].
كما شجعوا على الصناعة واستقطبوا الصناع وأغروهم بالعمل وأعطوهم القروض الكفيلة بإنجاح مشاريعهم[33].
وأقاموا لهم النقابات حتى أنه ينسب إليهم التنظيم العمالي والنقابي في العالم الإسلامي[34].
وقد نشطت التجارة بسبب الأمن والازدهار الذي كانت تعيشه الأحساء فنشطت التجارة براً وبحرا وكان ميناء العقير مزدهرا في تلك الفترة حيث كان ميناء ومدينة فدمرها بن زجاج العبدي سنة 430هـ وقال عن العقير " دهليز الأحساء ومصب الخيرات منه إليها وكثرت الإنتفاعات التي جل الاعتماد عليها "[35]
كما ساهم في ذلك عدم أخذهم رسوم وعشور على الموطنين.
فازدهرت الأحساء التي بها كل وسائل الحياة التي في المدن الكبيرة[36].


5- الحياة الفكرية:

مما يؤسف له أن التاريخ لم يحفظ لنا كتب ولم يصور لنا الحياة الفكرية عند قرامطة الأحساء وما هو موجود إنما هو شذرات بسيطة مبثوثة في الكتب التاريخية وأكثر ما يمكننا هو استنطاق النصوص لمعرفة الحالة الفكرية لقرامطة الأحساء.
فما ذكره المقريزي في نص تأسيس الدولة عند أبي سعيد يظهر مدى حنكة الرجل وقدرته التخطيطية لتأسي الدولة ورعاية جميع شؤونها وضبطها من الناحية العسكرية بتنشئة جيش لا يعرف إلا القتال والولاء للدولة والاقتصادية بجمع الأموال وعمل كل الشعب والاستفادة من كل شيء والاجتماعية بوضع مجتمع الألفة وأسكنهم بالأحساء دار الهجرة التي طرد منه الغرباء حتى لا يكونون عيوننا يكشفون أسرارها.
الشيء الأخر هو استنطاق رسالة أبي سعيد التي بعثها مع العباس فنستشف منها قوة الحجة وقدرته على الإيحاء النفسي[37] ويصف محمد بن مالك أبو سعيد بالفيلسوف الملعون [38]ويبدو أن أبو سعيد تأثر بالفلسفة اليونانية خصوصاً أفلاطون الذي نادى بمبدأ المساواة بين الجنسين واستقلال جميع قوى المجتمع وتكريسها لخدمة الدولة
" أن التجربة القرمطية أفادت من ميراث الأفكار المستنيرة في النظم والنظرات الشرقية والغربية على السواء ,وكيفتها بما يتفق وطبيعة العصر , دونما تعارض مع تعاليم الإسلام.
ونعتقد أن القرامطة أفادوا في نشر دعوتهم وتنظيم مجتمعهم من النهضة العلمية وحركة الاستنارة في هذا العصر فقد انعكس تقدم علم الفلك مثلا عند صائبة حران على فلسفة دعوتهم السرية كما ألمحنا سلفا.. كذلك أفادوا في إرساء نظمهم السياسية والاجتماعية من الآراء التي طرحها أفلاطون في "جمهوريته""[39]
ويمكن استنطاق تقدمهم في الفلك من بيت لأبي طاهر الجنابي يقول فيه:
أغركم مني رجوعي إلى هجر
              فعما قليل سوف يأتيك الخبر
  إذا طلع المريخ من أرض بابل
              وقارنه كيوان فالحذر الحذر
حيث أن القرامطة يرون أن العصر الجديد للديانة الحقيقية هو في القران السابع حيث يتم المرور بين مثلثة الأبراج المائية إلى مثلثة الأبراج المائية والأبيات الأنفة الذكر تتنبأ بهزيمة العباسيين عند اقتران المريخ بزحل ويؤكد دي خويه أن البيت يشير إلى سنة 317هـ وهي سنة غزو مكة  لأنه حدث فيها اقتران بين المريخ وزحل في برج الجدي وهذا القران يبشر بانتصار الديانة البيضاء أي عقيدة القرامطة[40].
ويرى محي الدين اللاذقاني أن العلامة اللغوي الأزهري صاحب كتاب التهذيب من حقه أن يعد نفسه صاحب أول منحة للتفرغ الأدبي منحها إياه القرامطة حيث أتاحت الحياة السياحة للأسير المحظوظ الفرصة للاحتكاك بأكثر من قبيلة والتعرف على أكثر من لهجة ويبدوا إنهم لم يثقلوا عليه بالأعباء فوجد متسعا من الوقت للانكباب على السماع والكتابة فكان أسره الذي استمر عامين بمثابة تفرغ أدبي أنجز خلاله أضخم أثر لغوي عند العرب وهو " تهذيب اللغة "[41]

ومن العلماء الشيخ أبو صالح السلولي من أعلام القرن الرابع الهجري وهو من أهل الأحساء.[42]
كما أن الرحالة اللذين زاروا الأحساء  أثنوا على النظام نرى ذلك في سفرنامة لناصر خسروا وصورة الأرض لأبن حوقل وأحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم للمقدسي.








المراجع والمصادر

1- أخبار القرامطة, د. سهيل زكار.
2- تاريخ الأمم والملوك , الطبري.
3- اتعاظ الحنفاء, المقريزي.
4- تحفة المسفيد بتاريخ الأحساء في القديم والجديد, محمد العبد القادر  الاحسائي.
5- معجم البلدان, ياقوت الحموي.
6- تاريخ ابن خلدون, ابن خلدون. 
7- "الكامل في التاريخ , ابن الأثير.
8- القرامطة بين الدين والثورة , حسن بزون.
9- القرامطة بين المد والجزر, د. مصطفى غالب
10- القرامطة , نشأتهم – عقائدهم – حروبهم, سليمان سليم علم الدين. 
11- صورة الأرض, ابن حوقل.
12- الثابت والمتحول, أدونيس.
13- النشاط الزراعي في الجزيرة العربية حتى نهاية القرن الرابع الهجري, أ. د. عبد الله محمد السيف.
14- من سواد الكوفة إلى البحرين, مي الخليفة.
15- سفرنامة, ناصر خسرو.
16- - الحركات السرية في الإسلام, د. محمود إسماعيل.
17- القرامطة, إسماعيل المير علي
18- ثلاثية الحلم القرمطي, د محي الدين اللاذقاني
19- ثورة الزنج وقائدها علي بن محمد, د.أحمد علبي
20-الكوفة – نشأة المدينة العربية الإسلامية , هشام جعيط .
21-تاريخ البحرين في القرن الأول الهجري , د. محمد بن ناصر الملحم
22- تاريخ العرب قبل الإسلام, د. جواد علي.
23- مجلة الواحة العدد45.
24- ميناء العقير, وكالة الآثار والمتاحف.
25- أعلام هجر من الماضين والمعاصرين , هاشم محمد الشخص .





حسين علي احمد الملاك
المملكة العربية السعودية
الأحساء – مدينة جواثى
الحليلة
الجوال: 0506947191
ص ب: 8600 الرمز البريدي:  الجبيل 31951
البريد الالكتروني:
hussain.al-mallak@hotmail.com



[1]  - القرامطة , نشأتهم – عقائدهم – حروبهم الصفحة 118-119
[2]  - زكار, أخبار القرامطة 192- 193
[3] - اتعاظ الحنفاء 1\46-47
[4]  - اتعاظ الحنفاء 1\47-48
[5]  - سفرنامة  143
[6]  -  اتعاظ الحنفاء 1\49
[7]  -  الكامل في التاريخ  3\419-420.
[8] - من سواد الكوفة إلى البحرين 299-300.
[9] من سواد الكوفة إلى البحرين 304
[10]  - الكامل في التاريخ 3\475-.476
[11] - تاريخ ابن خلدون  4\90
[12]  - القرامطة , نشأتهم – عقائدهم – حروبهم  281
[13]  -  أخبار القرامطة 598
[14] -  لمزيد من الإطلاع أنظر تحفة المسفيد بتاريخ الأحساء في القديم والجديد 1\178-182
[15] - ثلاثية الحلم القرمطي. د محي الدين اللأذقاني.  ص 9
[16] - القرامطة. إسماعيل الميرعلي. ص 8
[17] - القرامطة بين المد والجزر.  د مصطفى غالب . ص 5
[18] - يشير ناصر خسرو إلى ذلك بقوله "وقيل أن سلطانهم كان شريفا فردهم عن الإسلام"142
[19] - ثلاثية الحلم القرمطي 71 نقلا عن معجم الأدباء 2\147
[20] - ثلاثية الحلم القرمطي 83 نقلا عن تاريخ بغداد.
[21] - يظهر ذلك في كلام القاضي عبد الجبار الهمذاني ويرى بذلك كازانوفا
[22] - حسن بزون في كتابه القرامطة بين الدين والثورة 102
[23] - منهم ابن خلدون
[24] -  سفرنامة 142
[25] - من سواد الكوفة إلى البحرين 249
[26] سفرنامة 143
[27]  -  لمزيد من الإطلاع راجع المرأة في المجتمع القرمطي – مجلة الواحة العدد45
[28] - صورة الأرض 33-34
[29]  -  سفرنامة  143
[30] - لمزيد من الإطلاع انظر النشاط الزراعي في الجزيرة العربية حتى نهاية القرن الرابع الهجري.
[31] - يروي ناصر خسروا أن لهم ثلاثون ألف عبد زنجي يشتغلون بالزراعة وفلاحة البساتين .
[32] - يشير ناصر خسرو إلى ذلك "وفي المدينة عيون ماء عظيمة , تكفي كل منها لإدارة خمس سواقي , ويستهلك هذا الماء بها فلا يخرج منها "
[33]  -  انظر سفرنامة 143
[34] - انظر الثابت والمتحول  71
[35]  - ميناء العقير  3
[36]  - سفرنامة 142
[37] - لمعرفة ذلك أنظر ثلاثية الحلم القرمطي ص 333
[38]  - من سواد الكوفة إلى البحرين ص 242
[39] - الحركات السرية في الإسلام ص 190
[40]  - ثلاثية الحلم القرمطي ص 189
[41]  - ثلاثية الحلم القرمطي ص 7
[42] - أعلام هجر من الماضين والمعاصرين  1\23

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق