حسين الملاك
مدخل
دب الضعف في الدولة العباسية، وسيطر الخدم على الحاكم (الخليفة)، وصاروا المدبرين للأمر، يقيلون، وينصبون، ويتآمرون، وتفاقمت الإقطاعية، وسلب الأراضي، واستغلال الناس ونهبهم، مما أدى إلى حنق الناس، وبالخصوص الطبقات الكادحة. فكثرت الثورات، وساد التمرد على الدولة.
ومن بين الثورات الخارجة ثورة القرامطة بأرض السواد (الكوفة)، ويؤرخ الطبري لأول ظهور لها سنة 278 للهجرة حيث التقى حسين الأهوازي، أحد دعاة الإسماعيلية، بحمدان قرمط فتتلمذ على يديه، واستلم رئاسة الدعوة، فانتشرت الدعوة بين أوساط الفلاحين والعمال في أرض السواد، كما اعتنقها أعراب البادية المحيطة بها. وقد بدأ حمدان يأخذ ضريبة من جميع أتباعه باسم (الفطرة)، وقدرها درهم على الرجل والمرأة والطفل، وكانوا ملزمين بدفعها بالتضامن يساعد الغني منهم الفقير، ولما وجد الاستجابة التامة فرض عليهم (الهجرة) وقدرها دينار، فكانوا يؤدونها عن طيب خاطر.
وبعد أن بنى حمدان دار الهجرة، ورتب أمورها؛ عرض على من أحب أن يدخل دعوته أن يؤدي ضريبة أخرى هي (السلغة)، وقدرها سبعة دنانير، ثم دعاهم لأن يؤدوا إلى دار الهجرة خُمسَ ما يملكون أو يكتسبون، فلبوا دعوته راضين، وأخيرا فرض عليهم الألفة، وهو أن يحملوا إلى محل واحد كل ما يملكون، فلما جمعوه جعلوه مشاعا بين الأعضاء يوزعونه بالتساوي، وأقام الدعاة في كل قرية ممن يمتاز بالذكاء والمهارة وحسن التنظيم.
ثم انتشرت الدعوة القرمطية، فكانت في الكوفة والبحرين، والشام، واليمن. ورغم الاختلافات الموجودة بين هذه الدعوات في التوجهات والميول إلا أنها كانت ذات طابع واحد كان منبعه ما حدث في الكوفة (أرض السواد).
وقد شكلت الحركات القرمطية قلقا حقيقيا للدولة العباسية، ومنبعا للمخاطر، وأرهقت الدولة العباسية، وقد اعتبر بعض المؤرخين أن كل حركة خارجة عن الدولة هي حركة قرمطية، فظهر هنا اللبس في تحديد من هم القرامطة؟ فالبعض عد الصليحيين منهم بل أن بعضهم عد الدولة الفاطمية منهم، ويذكر التاريخ أن تهمة القرامطة تهمة مصيرها التعذيب والصلب والإحراق والقتل وهذا ما جعل أغلب المؤرخين يبتعدون عن الحديث عنهم، وإذا ما تكلموا عنهم ابتدأوا باللعن والتبرئ منهم خشية من أن تقع عليهم التهمة فيحل بهم العقاب، وهذا ما جعل الأخبار متناقضة بسبب حالة العداء المتفاوتة، وتأليب الدولة عليهم، ورغم ذلك هناك من المؤرخين من التزم الحياد كناصر خسرو، وابن حوقل، والمقدسي.
أما الكتابات الحديثة فقد غلب الطابع الأيديولوجي على الطابع المعرفي فيها فأصبح البحث قي الإرث القرمطي بحثًا عن مكاسب تؤيد الأطروحات المسبوقة، فكانت أطروحاتهم بين الإسقاط، والتقديس، وبين الإشادة والتنديد.
والباحث، مهما حاول الالتزام بالمنهجية العلمية، فإنه لا بد له من بعض السقطات نتيجة لضبابية المشهد التاريخي للقرامطة، وغياب مصادرهم المعرفية، ومن هنا التمس العذر إن شطح بي الفكر، أو خانني التعبير وذلك بسبب ضبابية الصورة، وقلة المصادر.
عاشت المرأة في المجتمع القرمطي شريكة في النظام الاجتماعي والسياسي، وكان لتفعيلها الأثر البالغ في استقرار النظام الاجتماعي للمجتمع القرمطي، وتميز المرأة القرمطية، وفيما يلي رصد لبعض الأدوار التي لعبتها المرأة في المجتمع القرمطي(1).
1- المرأة في السلك الدعوي
سمح القرامطة للمرأة بالانضمام إلى السلك الدعوي لإيمانهم بضرورة نشر الدعوة في كل عناصر المجتمع, واستطاعت المرأة أن تصل إلى أعلى الدرجات في السلك الدعوي فيروي لنا الدكتور مصطفى غالب في كتابه (القرامطة بين المد والجزر)(2) أن حسين الاهوازي قد طلب من زكرويه وأبي سعيد الجنابي “أن يختارا عددا من الفتيات والفتيان ليصار إلى إرسالهم إلى مقر الدعوة في سلمية للانتساب إلى مدرسة الدعاة العليا على أن يكونوا من أصحاب الذكاء الخارق، والنسب الصحيح، والسمعة الطيبة“(3)، وينقل عن أبي سعيد الجنابي في أول دعوته “... وعلى النساء المستجيبات أن يتبرعن بكل ما يملكنه من حلي ومتاع، ويشاركن في الجهود الدعوية والتنظيمية؛ لذلك سأختار بعض الأخوات الداعيات ليتولين قيادة المنظمات النسائية، ويشرفن على تقدم المرأة ونشاطها في كافة الحقول الاجتماعية والصحية والتعليمية“(4). وكان من بين المختارات (ليلى بنت أبي سعيد) التي أوصاها والدها قبل أن تذهب للدراسة “انتبهي يا ليلى إلى دروسك، وأطيعي ما يلقى إليك من أوامر، وحافظي على سمعتك وشرفك وعاملي إخوانك بالعطف والشفقة والمحبة، واذكرينا دائما في رسائلك، وواصلي العبادة والدعاء والله يوفقك”(5).
وقد تخرج من مركز الدعوة في سلمية “الداعية رقية بنت زكرويه رئيسة الفرع النسائي في السواد، والداعية ليلى بنت الجنابي معلمة مشرفة على مدرسة الدعوة للبنات في البحرين، والداعية علياء بنت رضوان داعية متجولة للنساء في السواد، والداعية سعدى بنت دندان مشرفة على النشاط النسائي التعاوني في السواد”(6).
ومن الداعيات البارزات في اليمن “الداعية رباب بنت علي الهمداني، وهي طالبة في السنة الأولى من دراستها العقلانية. جميلة جذابة ذات قوام ممشوق، وقدٍّ مياس، لا تتجاوز العشرين من عمرها، ذكية، كثيرة الملاحظة، قوية المنطق، تنقاد إليها التعابير والكلمات انقيادا عجيبا، تحب المجادلة والمناقشة في مناسبة وغير مناسبة، وكل ما تنهد إليه من وراء مناقشاتها أن تحرج من يناقشها أمام الطلاب، وتظهر ضعفه أمام قوتها، وكان أغلب الأساتذة يتجنبون الخوض معها في أي موضوع تطرحه، وتحاول إثارة الجدل حوله حتى لا يُحرَجوا أمام الطلاب، وتكون رباب هي المنتصرة”(7)، ومن الدولة الصليحية في اليمن “ كانت الملكة أروى مسئولة عن الدعوة الفاطمية في اليمن، وبلغت مرتبة الحجة، وهي أعلى مراتب الدعاة عند الفاطميين”(8).
2- المرأة وفنون القتال والدفاع
دخلت المرأة القرمطية في الدفاع عن العقيدة والدولة، وشكلت جزءًا من الجيوش العسكرية التي تحمي البلاد كما نقل المقريزي عن أبي سعيد الجنابي: “وأخذ الصبيان إلا أن يكونوا دون الأربع سنين سواء عبدا أو أمة أو حرا وأجرى عليهم ما يحتاجون إليه، ونصب لهم العرفاء، وأخذ يعلمهم ركوب الخيل والطعان، وصارت دعوته طبعا لهم”(9) وهذا النص يبين كيف أشرك أبو سعيد المرأة منذ صغرها في الإعدادات العسكرية، وتعامل معها كما الرجل على حد سواء فكان التدريب على القتال للجنسين.
وتظهر المهارات القتالية التي تمتلكها المرأة القرمطية في نص آخر يرويه الدكتور مصطفى غالب عند إرسال أول بعثة للدراسات العليا في سلمية حيث تعرضوا للصوص، وقاتل الفتيات ببسالة: “ وكانت رقية تصرخ كاللبؤة الهصور مشجعة ومؤازرة، تضرب ذات الشمال وذات اليمين، والفتيات الباقيات يتسابقن إلى الجهاد في سبيل الله”(10).
وقد لعبت المرأة القرمطية دورا بارزًا في الحياة الاجتماعية، فنحن نراها منذ نشأة القرامطة تشارك بجهدها في المعارك الحربية، فيروي الطبري في أحداث سنة 294هـ ما يلي: “وكان نساء القرامطة يطفن مع صبيانهن في القتلى والجرحى يعرضن عليهم الماء، فمن كلمهن أجهزن عليه”. وحين أخذ زكرويه أخذت زوجته معه، وكانت تدعمه وتؤازره، وتشد من عزيمته حتى آخر لحظة”(11).
3- المرأة في السياسة
لعبت المرأة القرمطية دورا مهما في الحياة السياسية، ومن الأدوار السياسية لها ذلك الدور الذي لعبته ليلى بنت أبي سعيد الجنابي حيث اجتمع بها زكرويه والد الحسين زوجها”، وطلب منها أن تكون على رأس الوفد الذي سيذهب إلى البحرين لمقابلة والدها أبي سعيد الجنابي، ولكنها رفضت، ولكن زكرويه ألح عليها ورجاها أن تحاول إقناع ذويها بعقد معاهدة مع جماعة زكرويه حرصا على مصلحة الطرفين لان الخطر العباسي يتهدد الجانبين، فقبلت ليلى مرغمة وأخذت تعد نفسها للسفر”(12) وتمثل الملكة أروى بنت أحمد، زوجة الملك المكرم أحمد بن علي بن محمد الصليحي، أعلى سقف سياسي مثلته المرأة حيث “كان أهل اليمن يلقبونها (بلقيس الثانية أوالصغرى) لرجاحة عقلها، وحسن تدبيرها، وتحملها مسئولية الحكم، والدعوة بعد وفاة زوجها”(13)، “وكان زوجها يعتمد عليها في إدارة شؤون الدولة، وتصريف الأمور، ولكن طموحها إلى الاستقلال دعاها إلى ترك صنعاء، والانتقال إلى مدينة جبلة، واستعفاء نفسها من زوجها”(14)، وقالت قولتها المشهورة: “إن امرأة تراد للفراش لا تصلح لتدبير الملك، فدعني وما أنا بصدده”(15).
وحين توفي زوجها اخفت الأمر إلى أن استصدرت من الإمام المستنصر الفاطمي أمرا بتقليد ابنها”، وبعد وفاة الآمر بالله الإمام المستعلي انفصلت عن الدعوة الفاطمية، وقطعت صلتها بخليفته في الحكم الإمام الحافظ بحجة انتمائها إلى المولود المستور الطيب بن الآمر بالله، وقالت عن الإمام الحافظ كلمتها المشهورة: “أنا أروى بنت أحمد. بالأمس ولي عهد المسلمين، واليوم أمير المؤمنين. لقد جرى في غير ميدانه، وادعى أمرا يبعد عن مكانه”، وأدى انفصالها إلى ضعف مركزها، فتجرأ نوابها على الانفصال عنها لانتمائهم لخصمها الأقوى الإمام الحافظ”(16).
4- المرأة في الحياة الاجتماعية
سعت الدعوة القرمطية لتغيير النظام الاجتماعي عن طريق الثورة والتمرد على حالات الظلم في المجتمع” وأعطى النظام الجديد للمرأة ما للرجل من حقوق عائلية، ومجتمعية. منحها الحق في التعليم والعمل، وأعفاها من الأعمال الشاقة التي تتنافى مع طبيعتها الأنثوية، لذلك قامت الحكومة بإنشاء مطاحن الحنطة على قوة الماء تخفيفا لأعباء النساء حسب تفسير الدكتور الدوري(17)، وسمح النظام الثوري للمرأة بالانتظام في سلك الدعوة، والتدرج في مراتبها، والاشتراك إلى جانب الرجل في ميادين القتال.
لقد حرر النظام القرمطي المرأة العربية من عبوديتها، ووضعها الاجتماعي - الاقتصادي المهين، ومنحها ما للرجل من حقوق عائلية، ومجتمعية، وأعاد إليها كرامتها الإنسانية، ومركزها اللائق كأم محترمة، ومربية فاضلة، وعاملة منتجة، ومناضلة شجاعة ومقدامة“(18).
ويعلل الدكتور محي الدين حضورها(19) بقوله: “ولا غرابة أن نجد المرأة القرمطية كثيرة الحضور بعكس نساء المجتمعات الأخرى، فالقرمطيات وريثات العقيدة الكيسانية التي أعطت أكثر من غيرها من الحركات مكانا طيبا للمرأة، ويشير الطبري في تاريخه إلى كيسانيات حولن دُورهن إلى معاهد لتخريج الثوار، وقاعات مفتوحة للنقاش العقائدي: “إن هند بنت المتكلفة الناعطية كان يجتمع إليها كل غال متطرف من الشيعة، فيتحدث في بيتها وبيت ليلى بنت قمامة المزنية”(20).
بينما يعلل طه الولي ذلك كما تنقله مي الخليفة أن القرامطة، “أنجب التلاميذ الذين درسوا تلك الفلسفة دراسة واقعية، ونادوا بتحرير المرأة، ومساواتها بالرجل مساواة مطلقة، وقالوا إن الرجل والمرأة هما الشخص الاجتماعي، وتربطهما صلة القيام بواجب الدين”(21)، ويبدو أن المرأة كانت لها حريتها واستقلالها كما يروي لنا الدكتور اللاذقي عن ابن الجوزي يصف أخلاق القرامطة، “ولا يجوز لأحد أن يحجب امرأته عن إخوانه”(22)، وهذا الوعي جعل القرامطة “على درجة من التحرر الاجتماعي سمحت لهم باحترام المرأة فلم يحجبوها، ولم يمنعوها من الاختلاط بالرجال، فكانت النتيجة ضريبة ثقيلة من الاتهامات الأخلاقية التي لها أول وليس لها آخر، ولأنه لا بد - دائما - من ثمنٍ مَّا للخروج على تقاليد المجتمعات المتزمتة؛ فقد دفعت المرأة القرمطية هذا الثمن، وأصرت على تحررها الاجتماعي، وعلى مشاركتها الايجابية في بناء المجتمع. ومشاركتها تلك لا يمكن أن توصم بالإباحية إلا عند أصحاب النوايا السيئة من الكتاب والمؤرخين”(23) ومن اللافت للنظر أن ظاهرة تعدد الزوجات أنها لم تكن مألوفة، فأبناء أبي سعيد من أم واحدة، وقد أوصى أبناءه بأن يتخذوا زوجة واحدة ليزيدوا سعادتهم في الدنيا، ويصونوا قوة أجسادهم”(24)، وإن كنا “لا نستطيع أن نحكم بأن تعدد الزوجات لم يكن شائعا عند القرامطة لكنه يبقى احتمالا وارد التصديق لان كل أبناء أبي سعيد من أم واحدة، وكذلك أولاد زكرويه، وعلي بن الفضل، ورغم أن القرامطة من غلاة الشيعة فليس هناك ما يفيد بشيوع زواج المتعة”(25)، إلا أن هناك من يرى أنهم “حددوا الزواج بامرأة واحدة فقط، ومهدوا الطريق أمام هذا الزواج ببناء المساكن للخطيبين قبل الزواج, وبإلغاء المهر تماما، أو جعله رمزيا، ولها حرية الاختيار، وحق الطلاق، ورفض الزواج إذا رغبت الفتاة بذلك”(26).
وقد ساعدت العلاقات الأخوية والمختلطة على التعرف أكثر والتعامل مع المرأة على أنها إنسانة، فهذه ليلى بنت الجنابي عندما استشارها والدها في الزواج من الحسين، قالت: “أعرف الحسين يا والدي حق المعرفة؛ هو أبعد الدعاة صيتا، وأغزرهم مادة، وأحسنهم أخلاقا، وأحدهم ذكاء، لذلك أوافق على أن أشاركه الحياة حلوها ومرها بشرط أن يوافق زكرويه على تزويج رقية من شقيقي سعيد لتكون الفرحة فرحتين، ولتحل رقية محلي في الإشراف على نشاط المرأة في البحرين”(27).
كما شاركت المرأة في العمل الاجتماعي بكل مجالاته، وينقل عن أبي سعيد الجنابي في أول دعوته: “وعلى النساء المستجيبات أن يتبرعن بكل ما يملكنه من حلي ومتاع، ويشاركن بالجهود الدعوية والتنظيمية، لذلك سأختار بعض الأخوات الداعيات ليتولين قيادة المنظمات النسائية، ويشرفن على تقدم المرأة، ونشاطها في كافة الحقول الاجتماعية والصحية والتعليمية”(28).
5- المرأة ودورها في التعليم والثقافة
اهتم القرامطة بالتعليم، لذلك بادروا بإرسال البعثات من ذكور وإناث، ووضعوا المراكز التعليمية والدعوية المختلطة حتى عرفت المرأة القرمطية بالذكاء والفطنة وحسن التدبير وحب التعلم، فهذا البصري عندما وصف غصون بنت الداعية زكرويه: “عليك بابنة الداعي زكرويه بن مهرويه غصون فهي من خيرة النساء أخلاقا وجمالا وإيمانا. فقال عبدان: أتعرفها يا بصري؟
فقال البصري: عرفتها في إحدى الجلسات التي عقدتها في كلواذي لنساء البلدة، وكانت آية في الذكاء والمنطق، وأظنها تنطق بالشعر إن لم أقل شاعرة مبدعة”(29).
“فنظر الحسين إلى شقيقه يحيى وقال: ما رأيك بعلياء يا أخي هل أعجبتك؟ قال يحيى وقد لمعت عيناه: إنها محدثة بارعة وذكية وجميلة”(30).
وكانت أروى بنت أحمد “تلك الملكة الحرة - فضلا على قوة شخصيتها ونفوذها السياسي - قارئة وكاتبة وحافظة للأشعار والأخبار ولها تعليقات وهوامش على الكتب تدل على غزارة علمها ورجاحة عقلها”(31)، وكذلك كن بقية الداعيات، بل أغلب النساء القرمطيات لما حظين به من رعاية وتعليم وتوجيه.
6- المرأة والاقتصاد
منذ بداية الدعوة والمرأة تشارك الرجل بما تملكه من أجل هذه الدعوة، وتدعيم وجودها، ونشر رسالتها “فابتدأ يفرض عليهم أن يؤدوا درهما على كل واحد، وسمي ذلك بالفطرة على كل أحد من الرجال والنساء فسارعوا في ذلك”(32)، ولما وصل الأمر إلى إخراج الخمس كانت المرأة تخرج خمس ما تغزل والرجل خمس ما يكسبه”(33)، وينقل عن أبي سعيد الجنابي في أول دعوته “وعلى النساء المستجيبات أن يتبرعن بكل ما يملكنه من حلي ومتاع”(34).
التهم المتعلقة بالمرأة في المجتمع القرمطي
اتهمت الحركة القرمطية بمجموعة من التهم منها المروق من الدين، وإباحة المحرمات، وترك الواجبات، وكان أغلب هذه التهم لا يستند إلى الحقيقة إنما هي فرط من الحرب الموجهة ضدهم، وأبرز التهم المتعلقة بالمرأة هي:
1- الإباحية والمشاعية الجنسية:
لا يكاد يذكر المجتمع القرمطي إلا وذكرت الإباحية الجنسية في مجتمعاتهم والتي أشاعها الخصوم “ولا تثار المرأة القرمطية إلا ويثار معها اتهام المجتمع القرمطي بإباحة النساء والأموال، فيندر أن نجد كتابا من الكتب التي تحدثت عنهم دون أن نجد وصفا شائقا لما يدعى بليلة الإمام، أو ليلة الإفاضة، أو ليلة التشويق، أو بدعة الماشوش، وكل هذه الأسماء صفة لليلة يقال أن القرامطة يجتمعون فيها فيطفئون الأنوار، ويباشر كل رجل المرأة التي تقع يده عليها دون تمييز”(35) ويرى حسن بزون أنه “يهم أن نلاحظ أن فزاعة إباحة النساء قد ربطت مباشرة بإباحة الأموال والأملاك, كي تشكل خط دفاع أيديولوجي عن ملكية رجل السلطة والإقطاع باعتبار إباحة النساء كانت تعبر أكثر اختراقات الشريعة تأثيرا في العامة، واستنادا إلى هذه الملاحظات ينبغي أن لا تقبل تهم إباحة النساء”(36) بينما الدكتور مصطفى غالب يقول: “هذه المساوئ الخلقية والاجتماعية التي تدل على الإباحية والفسق والفجور ألصقها هؤلاء المؤرخون بالقرامطة لإبعاد الناس عنهم، ورسم صورة سوداء كالحة لحياتهم الاجتماعية”(37)، ويرى الدكتور محي الدين اللاذقاني في ثلاثية الحلم القرمطي: “أن القرامطة كانوا على درجة التحرير الاجتماعي سمحت لهم باحترام المرأة، فلم يحجبوها، ولم يمنعوها من الاختلاط بالرجال، فكانت النتيجة ضريبة ثقيلة من الاتهامات الأخلاقية التي لها أول وليس لها آخر، ولابد دائما من ثمن ما للخروج على تقاليد المجتمعات المتزمتة، وقد دفعت المرأة القرمطية هذا الثمن، وأصرت على تحررها الاجتماعي، وعلى مشاركتها الايجابية في بناء المجتمع، ومشاركتها تلك لا يمكن أن توصم بالإباحية إلا عند أصحاب النوايا السيئة من الكتاب والمؤرخين”(38)، ويقول في موضع آخر: “وبالرغم من شيوع الدعارة في المجتمعات المجاورة للقرامطة فقد خلت أخبار مجتمعاتهم منها”(39)، ويرى طه الولي أن سبب ذلك هو: “ما تميز به المجتمع القرمطي من إعطاء المرأة دوراً مهمًّا في الحياة السياسية والاجتماعية، وهذا ما جر عليهم تهمة الإباحية لأنهم سمحوا لنساء المجتمع القرمطي بالاختلاط بالرجال”(40).
ومن الجدير بالذكر أن أصحاب العقيدة وأصحاب الحكم نفوا عن أنفسهم هذه التهمة، فقد رد سعيد ابن أبي سعيد الجنابي على الخليفة العباسي عندما اتهمه باسترقاق العلويات، والغدر بأهل البحرين: “إن أهل البحرين بغوا علينا، وغدروا بنا، وقالوا إننا نشترك في أزواجنا، ونرى الإباحة وتعطيل الشريعة، وقد كذبوا علينا، ونحن قوم مسلمون، وما نحل من اتهمنا بغير الإسلام”(41)، كما يظهر من شعر الحسن الأعصم الحاكم القرمطي في افتخاره بنفسه وعقيدته نفي هذه الصفة عنه وعن العقيدة في هذه الأبيات:
أني امرؤ ليس من شأني ولا أربي
طبل يرن ولا ناي ولا عود
ولا اعتكاف على خمر ومجمرة
وذات دل لها دل وتفنيد
ولا أبيت مليء البطن من شبع
ولي رفيق خميص البطن مجهود(42)
كما إنَّ بعض المؤرخين المنصفين كناصر خسرو(43) والرحالة ابن حوقل ومنهم من زار المناطق القرمطية لم يذكروا هذه الممارسات في وصفهم للقرامطة، وإنما ذكروا تماسكهم الأخلاقي
2- اتخاذهم للإماء وعدم تحرير الأمَة:
مما يؤخذ على القرامطة أنهم أصحاب ثورة تحريرية فكيف اتخذوا العبيد والإماء وبأعداد كبيرة؟ ولكن ذلك له ما يبرره من الحاجة الملحة، وخصوصا مع بدء تأسيس الدولة، وقلة الأيدي العاملة، ويبدو أنهم أحسنوا معاملتهم، ولم يرهقوهم بأشغال شاقة ورعوا أبناءهم، واعتبروهم أبناء الدولة، وهذا ما جعل حالة من الرضا والإستقرار الاجتماعي، وخلو تاريخهم من الثورات أو التمرد.
3- المرأة في الحروب والغارات:
يختلف التاريخ في تدوينه لغارات القرامطة وحروبهم في تعامله مع نساء الخصوم، فبعض المؤرخين يشير إلى قيامهم بقتل النساء، والبعض إلى السبي، والبعض إلى الترك، والبعض إلى الأخذ وتحويلهم جزءًا من المجتمع، ولا أدري هل اجتمعت هذه الأساليب؟ أو أن بعضها مفترى ولكن جرى التنويه على ذلك؟
خاتمة
هذا عرض لصورة عن واقع المرأة في المجتمع القرمطي حسب ما أوتيت من طاقة، وما توفر لي من مصادر آمل أني وفقت إليه، فهذه الصورة تظهر أن القرامطة تعاملوا مع المرأة بكل احترام، واعتبروها شريكا أساسيا في بناء المجتمع القرمطي، والحفاظ على الدعوة القرمطية، وسعوا - بجهدهم - إلى تنمية طاقات المرأة، وتوجيه دورها فيما يخدم قضيتهم، وهذه التجربة أظهرت ما يمكن أن تقوم به المرأة من نشاط دعوي وجهادي، ودعم اقتصادي واجتماعي، ومحافظة أخلاقية، وهي تجربة تستحق الدراسة والرصد للاستفادة منها في تفعيل دور المرأة على الواقع الاجتماعي.
المصادر:
1- من سواد الكوفة إلى البحرين (القرامطة من الفكرة إلى الدولة )، مي محمد الخليفة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الطبعة الاولى 1999.
2- مساهمة في إعادة التاريخ العربي الإسلامي، برهان الدين دلو، المؤسسة الوطنية للاتصال والنشر والإشهار، الجزائر، الطبعة الثانية 2001.
3- أخبار القرامطة في الاحساء -الشام - العراق - اليمن - الدكتور سهيل زكار، دار الكوثر، الرياض، 1410هـ- 1989م.
4- ثلاثية الحلم القرمطي - الدكتور محي الدين اللاذقاني، مكتبة مدبولي، القاهرة، الطبعة الأولى عام 1993م.
5- القرامطة بين الدين والثورة، حسن بزون، مؤسسة الأنتشار العربي، لبنان، 1997.
6- القرامطة بين المد والجزر، الدكتور مصطفى غالب، دار الأندلس للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، بدون تاريخ.
7- مجلة الواحة - العدد التاسع عشر، الربع الأخير 2000م.
الهوامش:
* كاتب - السعودية.
(1) هذا الرصد لا يعتمد على التوثيق بقدر ما يعطي صورة لما كتب عن المرأة في المجتمع القرمطي مع العلم إنني أدخلت الدولة الصليحية معها حسب رأي بعض المؤرخين.
(2) هذا الكتاب أقرب ما يكون للرواية التاريخية ولا يمكن الاعتماد عليه من ناحية التوثيق وقد ذكرالمؤلف في مقدمة الكتاب أن ما يقدمه هو الكثير من الحقائق عن الحركة القرمطية إلا انه لم يوثق ذلك ولم يذكر المصادر.
(3) القرامطة بين المد والجزر الصفحة 170
(4) القرامطة بين المد والجزر الصفحة 194
(5) القرامطة بين المد والجزر الصفحة 176
(6) القرامطة بين المد والجزر الصفحة 295-296
(7) القرامطة بين المد والجزر الصفحة 268-269
(8) من سواد الكوفة إلى البحرين الصفحة 162
(9) مساهمة في إعادة كتابة التاريخ العربي الإسلامي الصفحة 389.
(10) القرامطة بين المد والجزر الصفحة 177.
(11) ثلاثية الحلم القرمطي الصفحة101-102
(12) القرامطة بين المد والجزر الصفحة 388.
(13) من سواد الكوفة إلى البحرين نقلا عن محمد يحيى حداد في كتابه التاريخ العام لليمن الجزء الثاني الصفحة 185 الحاشية.
(14) من سواد الكوفة إلى البحرين الصفحة 161-162
(15) من سواد الكوفة إلى البحرين الصفحة 161
(16) من سواد الكوفة إلى البحرين الصفحة 162-163
(17) دراسات في العصور العباسية المتأخرة الصفحة 37 نقلا عن مساهمة في إعادة كتابة التاريخ العربي الإسلامي
(18) مساهمة في إعادة كتابة التاريخ العربي الإسلامي الصفحة 388-389.
(19) هذا التعليل لا يصمد أمام الدليل ولعل ذلك ناتج عن التخبط في فهم عقيدة القرامطة وتوجههم الديني وما قيل فيه من تكهنات.
(20) ثلاثية الحلم القرمطي الصفحة101
(21) من سواد الكوفة إلى البحرين الصفحة255-256
(22) القرامطة الصفحة 72 - صباغ نقلا عن ثلاثية الحلم القرمطي.
(23) ثلاثية الحلم القرمطي الصفحة 102
(24) من سواد الكوفة إلى البحرين الصفحة 357
(25) ثلاثية الحلم القرمطي الصفحة103
(26) الحركة القرمطية - أيمن الشعار
(27) القرامطة بين المد والجزر الصفحة 311
(28) القرامطة بين المد والجزر الصفحة 194
(29) القرامطة بين المد والجزر الصفحة 200.
(30) القرامطة بين المد والجزر الصفحة 303 -304
(31) من سواد الكوفة إلى البحرين الصفحة 161
(32) أخبار القرامطة الصفحة 538
(33) أخبار القرامطة الصفحة 539
(34) القرامطة بين المد والجزر الصفحة 194.
(35) ثلاثية الحلم القرمطي الصفحة 101
(36) القرامطة بين الدين والثورة الصفحة 253
(37) القرامطة بين المد والجزر الصفحة 444-445
(38) ثلاثية الحلم القرمطي الصفحة 102
(39) ثلاثية الحلم القرمطي الصفحة 104
(40) شبكة الانترنت - ديوان العرب
(41) من سواد الكوفة إلى البحرين الصفحة257-258
(42) من سواد الكوفة إلى البحرين الصفحة 312
(43) يرى المحقق والباحث السيد عدنان العوامي إن ما كتبه ناصر خسرو عن الأحساء لا يشير إلى انه زار الاحساء وإنما جاء وصفه استطرادا غير أن مترجم الرحلة عن الفارسية قام بتعديل أوجب لبسًا كبيرًا لدى قارئ الرحلة. وأنا اتفق مع السيد المحقق ولمعرفة الأسباب ورفع اللبس راجع مقالة السيد العوامي في مجلة الواحة العدد (19) في أدب الرحلات: ناصر خسرو والأحساء الصفحة 52.